«مش حاتصور مع نادية الجندي»، كان هذا ردي على صديق عندما سألني عن زيارتي الأخيرة لمصر، بالطبع لم يفهم مغزى ما قلت دونما شرح وتوضيح. ونادية الجندي
لمن لا يعرفون، وأظنهم قلة، هي ممثلة مصرية مشهورة كانت إلى وقت قريب فتاة
الإغراء في السينما المصرية ولها حضور في القاهرة، وفي قرى ونجوع مصر كلها،
أيقونة ثقافية.
ولكن ما علاقة نادية الجندي بزيارتي الأخيرة لمصر. ببساطة نحن أبناء القرى
الذين ذهبوا إلى الغرب وتعلموا «وشافوا الشغل على أصوله»، وحصلوا على درجات
علمية متميزة أو أصبحت لهم مكانة في الغرب، يجدون صعوبة في توصيل معنى ما
وصلوا إليه من علم، ويعجزون عن توضيح ذلك لأنهم يزنون المعرفة والمكانة
بموازين ومعايير مختلفة، ولأن ما وصلهم من علوم الغرب هو «النسخة التايواني
أو الصيني». ويقال إنه في زيارة مسؤول صيني إلى مصر مؤخرا، لم يلق الحفاوة
اللائقة بوزير قادم من دولة عظمى. ولما سأل أحدهم وزيرا مصريا عن سبب
التجاهل، قال: «سيبك منه دا صيني»، أو «وزير تقليد».
جماعتنا فقدوا القدرة على ما يأتي من الغرب لأن التايواني هو الرائج في
السوق، لذا لا يستطيع القادمون من الغرب ترجمة مكانتهم في الغرب إلى المكانة
ذاتها في مصر، وذلك ببساطة أيضا لأن المعايير وكذلك المفاتيح الثقافية مختلفة
بين الحضارتين. لا تفهمني خطأ، فأهالي القرى لا يريدون لأبنائهم شرا، هم
يريدون لهم كل الخير. ولكن كنوع من حب الاستطلاع يريدون أن يعرفوا ما «وصل»
إليه هذا الغائب عن الديار كل هذه السنين من مكانة، خصوصا إن لم يكن عائدا
بمال أو شيء عيني مقنع يفهمونه. وبما أن العلم بشكل عام هو رأسمال رمزي، فلا
بد من محاولة ترجمته من حالة رأسمال عالمي إلى ما يقابله من رأس مال رمزي
محلي، وفي حالتنا يصبح الرأسمال «رقص مال».
فمثلا عندما جاء العالم المصري الكبير أحمد زويل إلى مصر، أراد أن يتكلم
في مشروعه العلمي، وفي الفيمتوثانية. ولأن من يحاورونه، باستثناءات قليلة
جدا، لا يعرفون الكثير عن الكيمياء وعن الفيزياء ما بعد الإنتروبي والقانون
الثالث للديناميكية الحرارية، أو ما بعد الكوانتم ميكانيكس، لم يستطيعوا وضع
زويل في أي سياق مفهوم غير أنه رجل مشهور في الغرب وحاصل على جائزة نوبل. ولو
أن زويل من قرية مثلي، لكانت لديه مشكلة أعظم في أن يفهم جماعته أنه «وصل»،
حسب تعبيرهم، «وصل إيه، وفيمتو، أو مفهمتوش إيه، لازم نشوفه متصور مع نجوم
القاهرة مع الناس اللي وصلت»، وهم بالطبع لا يعرفون أن ليل القاهرة الآن
مظلم، لا نجوم فيه سوى ما يسمونه في الصعيد بـ«الفشنك»، أي الألعاب النارية
التي تحدث ضوءا كاذبا لا يلبث أن يختفي. ومع ذلك هم مصرون على أن في القاهرة
نجوما، وأن هناك صراعا على الأضواء، رغم أن القاهرة اليوم أصبحت تقترب من
حالة المدن المنتهية، ولكن هذا كلام لا يقبله أهل القاهرة. المهم في حالة
«الوصول» بالنسبة لأبناء أهل القرى هو أن يتصوروا مع «نجوم القاهرة» من
الممثلين، والتمثيل هو أن تقوم بدور غير الدور، أي تقليد أيضا أو صيني،
(تمثيل في تمثيل) سواء كان تمثيلا في السينما أو تمثيلا في البرلمان. كله
تمثيل.
لذا ورغم حصول العالم المصري أحمد زويل على أعلى الجوائز العلمية، لم يعرف
الكثيرون في مصر أن زويل قد «وصل» إلا حينما «اتصور مع نادية الجندي». هذا ما
تستطع الجماعة فهمه في غياب المعايير الحاكمة في الإعلام، والثقافة، والعلوم.
المهم أنك تتصور مع نادية الجندي، ويا سلام بالنسبة للجيل القديم لو «اتصورت»
مع سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، ولكن الحمد لله أن سيدة الشاشة عزفت عن
التصوير منذ زمن، وربما هذا نقص في معلوماتي.
في واحدة من ليالي القاهرة جلست إلى الدكتور محمد النشائي، وهو عالم
فيزياء كبير، تعلم في ألمانيا، وهو أستاذ بجامعة كمبريدج، وله أبحاث عالمية
معروفة. ولتبسيط الموضوع، هو المنظر لما يقوم به الدكتور زويل في المعمل في
مسألة الزمن وحركته، وصاحب نظرية توحيد القوى الخمس (الجاذبية والمغناطيسية
والكهرباء والقوى الضعيفة والقوى القصوى). وهذا حديث متخصص ليس مكانه هنا،
إنما النقطة هي أن النشائي وغيره ممن يعتبرون في الغرب قامات علمية، يعيشون
على هامش الثقافة في مصر، لأنهم لم يتصوروا مع نادية الجندي. لذا فالناس لا
تعرفهم والدولة لا تهتم بهم وبأبحاثهم التي هي محط اهتمام العالم.
لست زويل أو النشائي في مجالي، ولكني مراقب لمسألة انهيار المعايير في
مصر، المسألة في مصر اليوم أصبحت «شومان شب»، «اللي على التلفزيون كتير يكسب،
واللي عنده تربيطات يكسب». بالطبع لا يكسب بالمعنى الكبير للمكسب، يكسب بمعنى
«البقشيش»، عقلية الترجمان الذي يقف بجمله إلى جوار الهرم، ليس المهم هو
الهرم، وإنما البقشيش. أما المسألة التي فوق فهي لها حسابات أخرى، الأساس
فيها عبارة واحدة، لا غيرها «مكافأة لا كفاءة»، هذه هي العبارة الحاكمة.
بمعنى أن موقع أي فرد في السياسة والصحافة والثقافة، أو حتى في جوائز العلوم،
هو مجرد مكافأة لا كفاءة، جوائز ومناصب تمنح للمطيعين والمتنطعين، هؤلاء
يكافأون. أما أن تقول شيئا فيه نقد، فالنقد لا يكون مفهوما إما لغياب
المفاتيح الثقافية المشتركة، وهذا هو الغالب، أو لأن القوم مكتفون ذاتيا
وراضون، وبالنسبة لهم «ليس في الإمكان أبدع مما كان».
في مجموعة بهاء طاهر القصصية «أنا الملك جئت»، هناك حوار بين الكاهن
المتمرد على عبادة الإله آمون «كاي- نن»، وبين كهنة آمون الذين أرادوا أن
يعدموه، لذا طالبهم في مواجهة علمية بالاحتكام إلى ريشة ماعت، وريشة ماعت هي
ريشة العدل في الميثولوجيا المصرية القديمة، إذ توضع الريشة في كفة الميزان،
وقلب المتوفى في الكفة الأخرى، فإذا تساوى القلب مع الريشة دخل المتوفى
الفردوس. ولما طلب كاي نن ذلك، قال له الكاهن الأكبر في جلسة سرية، وهو صديق
قديم له منذ أن كانا في مدرسة الكهنوت، إنه ستكون هناك ريشة، وسيكون هناك
ميزان، ولكنها لن تكون ريشة ماعت، ولن يكون نفس الميزان. ببساطة أن الموضوع
سيكون من أوله «غش في غش». وبهذا رفع بهاء طاهر المرآة للمصريين كي يروا
وجوههم الحقيقية فيها، ولكنهم وحتى الآن عنها معرضون.
كلما يأتي الجادون إلى مصر، يقابلهم أهل الميزان المغشوش، يتحدثون عن
الغرب وعن سفالته وكفره لا عن علمه، محاولة من أهل الغش لإنكار رحلات طويلة
من الكد والجهد والتعب، وقصص نجاح وصعود حقيقية وليست تمثيلا. يحاولون
تسفيهها، ولأننا اقتنعنا بأن كل شيء منحة ومكافأة في الداخل، فلا بد أن تكون
المكانة منحة في الخارج أيضا. وبالطبع كل إناء بما فيه ينضح، أو الناس يفهمون
الآخرين حسب تجاربهم هم، ودائما ما يسألني أصدقائي، ما ردك على هذا النوع من
الحوار، فيكون ردي دائما «لقد تعلمت من المنبع، ولا يبهرني المسروق أو
المغشوش لا في الثقافة، ولا في السياسة والأدب، ولا حتى في العلوم، ولكل هذا
أنا لن أرد، و«مش حاتصور مع نادية الجندي».